معرفة

بحار قريبة وبحار بعيدة: التحليل الجغرافي للسيطرة على البحار والمحيطات

حين تتحول البحار من مجرد ممرات مائية إلى خرائط للقوة والنفوذ، تنكشف أمامنا الجغرافيا السياسية في أقسى وجوهها.

future غلاف كتاب «Near and Far Waters: The Geopolitics of Seapower»

هذا كتابٌ يجمع بين دقة المعرفة وانسيابية العرض، وضعه عالم الجغرافيا الشهير كولن فلِنت، وقد صدر في 2024 ويتألف من ثمانية فصول، تسبقها مقدمة وتعقبها خاتمة.

صراع البر والبحر

يمهد المؤلف كتابه بعرض مسيرة الصراع الدولي طيلة القرون الخمسة الماضية، والتي تجلى فيها كيف أن الصراعات الكبرى بين الدول في الفضاء البري ومعارك اليابسة كانت تُحسم بالدعم الذي يقدمه الأسطول البحري للجيوش البرية. ولا تقف المسألة عند ساحات الحرب والقتال، فهناك حروب اقتصادية أخرى تفوق في إنجازاتها ما تحاول نيران المعارك الوصول إليه.

وفي هذا الصراع، تستخدم الدول العظمى قواتها البحرية لفرض شروط اقتصادية وسياسية وعسكرية على الدول الأضعف؛ بما يضمن تفوق الدولة الأقوى في الميزان الصناعي والتجاري، فأحد عناصر القوة البحرية يكمن في مراقبة البحار جغرافيًا وعسكريًا بهدف السيطرة والتأثير على ممرّات وطرق عبور التجارة العالمية. ولقد ساهم التغير التكنولوجي عبر القرون في ظهور طرق جديدة لاستخدام القوة في البحر.

والنتيجة المترتبة على الاختلال في ميزان السيطرة على البحار والمحيطات هي خلق عالم غير متكافئ، لابتزاز الدولة الأضعف والوصول إلى الموارد في أراضي البلدان البعيدة، وتأمين طرق التجارة لمصلحة الطرف الأقوى. والمفارقة أن الدول تفعل ذلك ضمن سياسات أنانية تُسميها «المصلحة الوطنيّة» التي تنتهي دومًا بإشعال الحروب.

وتعلمنا دروس التاريخ أنه لا توجد قوى بحرية مهيمنة على الدوام، فهناك منحنى قوسيّ للصعود والهبوط، على هذا المنحنى تصعد دولة لتصبح القوة المهيمنة على البحار، قبل أن يصيبها ضعفٌ ترافقه علامات وأدلة على بزوغ قوى أخرى منافسة، سرعان ما تحل محلها وتنتزع منها الصدارة العالمية على البحار. ولا يقف المؤلف عند كيفية صعود هذه القوى إلى الصدارة والهيمنة، بل يناقش أيضًا لماذا انهارت وسقطت هذه القوى وفقدت السيطرة والسيادة.

في هذا التمهيد، يأخذنا المؤلف إلى توضيح عدة مفاهيم للقارئ غير المتخصص، ولا سيما: القوة البحرية، والدول الرئيسة والفرعية، والهيمنة، والمياه القريبة والمياه البعيدة.

والمياه القريبة هي تلك الأجزاء من البحر أو المحيط القريبة من ساحل دولة ما تعتقد أنها بحاجة إلى تأمين هذا البحر لحمايتها من الغزو أو الحصار الأجنبي. أما المياه البعيدة فهي تلك السواحل البعيدة عبر البحار. وبدهيٌّ أن المياه القريبة لبلدٍ ما هي مياه بعيدة لبلدٍ آخر.

المفاهيم الأساسية والنظريات الكبرى

يستهلّ المؤلّف فصول كتابه بتحليل المعنى الدقيق لمصطلح «الجيوبوليتيكا» الذي يُترجم خطأً في ثقافتنا العربيّة إلى «الجغرافيا السياسيّة». ولقد أصبحت الجيوبوليتيكا مرادفًا لمفاهيم الأمن القومي أو السياسة الدوليّة، وفق قانون البقاء للأقوى والأكثر افتراسًا.

ومن أسفٍ أنّ المدارس والجامعات في العالم تتعامل مع ذات المفاهيم الجيوبوليتيكيّة الكلاسيكيّة التي تشجّع التوسّع والاستعمار، وما ترتّب عليها من حروب شاملة في القرن العشرين راح ضحيّتها ملايين البشر.

تطوّرت مفاهيم الجيوبوليتيك لتسويغ وتبرير الاستعمار والتوسّع على حساب الدول الأضعف، ونشبت أكبر ساحات التنافس بين إنجلترا وروسيا في مطلع القرن العشرين، ضمن نظريّة قلب الأرض الشهيرة التي تقول: «من يتحكّم في قلب الأرض (شرق أوروبا وغرب روسيا) يتحكّم في العالم».

وإذا كان الضابط وعالم الجغرافيا هالفورد ماكيندر قد صاغ نظريّة «قلب الأرض» عن الصراع على البرّ واليابس، فإنّ الأدميرال البحري ألفريد ماهان كان صاحب الأثر الكبير في ترويج نظريّته ذائعة الصيت عن القوّة البحريّة: «من يملك السيطرة على البحر يسيطر على العالم».

مع الحربين العالميّتين الأولى والثانية، تجسّدت بوضوح مفاهيم قوى البحر (بريطانيا والولايات المتحدة) وقوى البرّ (ألمانيا والاتحاد السوفيتي). واستمرّت مفاهيم الصراع في مرحلة الحرب الباردة، حين ظهر استقطاب دول العالم في كتلتين: شرقيّة وغربيّة. ولأنّ ألمانيا خرجت من الصراع البرّي، فقد استمرّ الصدام البارد وسباق التسلّح وحروب الوكالة بين قوى البرّ السوفيتيّة وقوى البحر الأمريكيّة، إلى أن تفكّك الاتحاد السوفيتي في 1991، وانهارت معه الثنائيّة القطبيّة، وأصبح العالم رهينًا للأحاديّة القطبيّة.

الدول القوية والضعيفة وأنماط التهديدات

لا تتوقّف عناصر القوّة والضعف عند ممتلكات الأساطيل والأسلحة في البحر والمحيط، بل تشمل أيضًا قوّة الاقتصاد وشركات إنتاج السلع التكنولوجيّة الأكثر تطوّرًا والأكثر ربحيّة، وبالتالي تكون الدولة القويّة هنا قادرة على صنع القرار في أيّ مكان في العالم، كما أنّها تشارك في الحوكمة العالميّة بطريقة تمنحها صوتًا في تحديد القواعد الدوليّة ومراقبتها.

ولأنّ الاقتصاد والتكنولوجيا ليسا حكرًا على الدول الأكثر تسليحًا وقوّة عسكريّة في البحر والمحيط، فإنّ الأمور تتداخل وتختلط، ولا تصبح الصراعات الدوليّة محكومة بقواعد ثابتة لا تتغيّر، فهناك دول صغيرة ذات جاذبيّة سياسيّة واقتصاديّة لدولة أو أكثر من الدول الرئيسيّة التي تتحكّم في العالم.

يبحث الكتاب أيضًا في تطوّر العلاقة بين الدولة الرئيسة والدولة الفرعيّة ضمن سلسلة معقّدة من الاحتياجات والأهداف لكلا الطرفين. وتُعدّ الصين مثالًا جديدًا صاعدًا في هذا المجال، فهي دولة تحاول أن تُحدث تغييرًا في قواعد النظام الدولي في الساحتين الاقتصاديّة والعسكريّة، وإدخال تعديل على قواعد ومعايير الحوكمة العالميّة.

يذهب المؤلّف إلى فرضيّة تقول إنّ الصين تهدف إلى أن تصبح دولة رئيسة قويّة من خلال التغيير الاقتصادي والسياسي والعسكري والخطاب البلاغي. ويُنوّه المؤلّف إلى أنّ الولايات المتحدة تنظر إلى القوّة المتزايدة للصين باعتبارها تغيّرًا جذريًّا في القواعد الراسخة للسياسة العالميّة، بما يشكّل «تهديدًا» بل وخطرًا أمنيًّا.

ويُخصّص المؤلّف هنا مساحة معتبرة لتوضيح الأنواع الجيوسياسيّة للتهديد والتغيير في النظام العالمي، لا سيّما عند ثلاثة مستويات: الاقتصادي، والاستراتيجي، وقواعد السيطرة على السياسات العالميّة.

صعود وسقوط القوى البحرية

يناقش المؤلّف في الفصل الثالث من كتابه كيف أنّ قوّة الدولة رهينة بحماية مياهها القريبة في البحر والمحيط، تلك الحماية التي تضمن ردع الغزو الخارجي، وصدّ التمرّدات أو الجماعات الانفصاليّة، ومقاومة الحصار. يُوسّع الفصل مفاهيم الحصار الحديثة لتشمل الوسائل التكنولوجيّة العابرة للحدود.

والدول في صراعها بين المياه القريبة والبعيدة تدخل في ثنائيّة من صعود القوّة وسقوطها، وتُحيط بها عدّة دروس جيوسياسيّة، أهمّها أنّ العلاقات بين الدول الأساسيّة والدول الفرعيّة تتضمّن استخدام القوّة، لأنّ الدول الفرعيّة ترفض الهيمنة وتُقاومها، وهذا يؤدّي في كثير من الأحيان إلى حروب مباشرة وحروب بالوكالة.

وفي هذا الصدد، تُعدّ الصين أهمّ نموذج معاصر يسعى إلى فرض حضوره داخل مياهه القريبة، وفي المياه البعيدة أيضًا، ممّا يُثير خوف الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها مثل الفلبين وفيتنام.

ويتّخذ الفصل الحالي من تاريخ هولندا كقوّة بحريّة نموذجًا لفحص دور التجارة في تحقيق القوّة العالميّة، والعلاقة بين التجارة والصراع، والتحدّيات المستمرّة للهيمنة، ومنهج هولندا في مواجهة التحدّيات دون استخدام العنف. ثمّ ينتقل الفصل إلى انحدار القوّة الهولنديّة إلى درجة السقوط، ثمّ صعود القوّة البحريّة البريطانيّة.

ويَدرس الفصل الأساليب التي اتّبعتها بريطانيا حتّى أصبحت القوّة البحريّة المهيمنة في العالم، وكيف لعبت الدور القيادي في الاستكشاف والتجارة وتجميع المعرفة حول العالم، بما في ذلك رسم خرائط لجميع مياه المحيطات.

ومثلما انحدرت هولندا وصعدت بريطانيا، انحدرت القوى البحريّة البريطانيّة وصعدت الولايات المتحدة، وهذا هو الموضوع الرئيس في بقيّة الفصل.

ويَختتم المؤلّف حديثه هنا بعرض تجربة الصين التي تصعد بقوّة لمزاحمة الولايات المتحدة وسحب مقدار كبير من رصيدها في القوّة البحريّة العالميّة. ويتوقّف الفصل الحالي عند معلومات دالّة على صعود الصين، أهمّها انتشار 30 ألف شركة صينيّة في جميع أنحاء العالم، ويخشى الغربيّون من أن تفرض الصين، مع البصمة التصديريّة، بصمة عسكريّة.

الجغرافيا السياسية للمياه القريبة والمياه البعيدة

يتبنّى الفصل الرابع من الكتاب منهج دراسات الحالة، فيُولي عناية تفصيليّة لكلٍّ من البحر الكاريبي والبحر المتوسّط. على سبيل المثال، يقع البحر الكاريبي بالقرب من الولايات المتحدة، والبحر المتوسّط بعيدًا. وهذه حقيقة جغرافيّة بسيطة، وغير قابلة للتغيير. ومع ذلك، فإنّ الأهميّة الجيوسياسيّة لهذه المياه ديناميكيّة، لأنّ المياه القريبة والبعيدة تُشكّل ساحات جغرافيّة ماديّة للنمط المتغيّر للعلاقات الجيوسياسيّة العالميّة.

ويناقش الفصل كيف تغيّرت أهميّة البحر الكاريبي، إثر تغيّر المعنى الجغرافي والوظيفة الجيوسياسيّة لهذا البحر لكلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا. ولا يمكن فهم هذه العلاقة الديناميكيّة في الكاريبي، والطريقة التي تمّ بها تبادل السيطرة الجيوسياسيّة على الإقليم، إلّا في إطار النمط الأوسع للتحوّلات الجيوسياسيّة العالميّة.

وبينما يستعيد الفصل تجارب من تغيّر قوّة الدول وصراعها على المياه القريبة والبعيدة – من خلال استحضار أمثلة من قرون سابقة، ولا سيّما تجارب هولندا في مستعمرات ما وراء البحار – فإنّه يضرب مثالًا معاصرًا يتّضح منه أنّ القوّة المتنامية للصين في غرب المحيط الهادئ، وبصفة خاصّة في بحر الصين الجنوبي، تُؤجّج التنافس في هذه الساحة الجيوسياسيّة، علاوة على مشروع الصين الكبير المسمّى «مبادرة الحزام والطريق»، والذي يُعدّ شكلًا من أشكال بروز الصين كقوّة في المستقبل.

التجارة الدولية.. سلاح دائم

يُولي الفصل الخامس من الكتاب عناية لأنماط التجارة البحريّة، واشتباك جغرافيّة الإنتاج بالصراع الدولي عبر الزمن، مع سعي بعض الدول القويّة إلى الاستحواذ على المواد الخام بأسعار متدنّية، والحصول على السلع الحيويّة بما يصبّ في صالحها، مع رغبة استحواذ تُبقي البلدان الأخرى مكتفية بتصنيع محدود، وتجارة ضعيفة، ومنتجات أقلّ ربحيّة.

ويَتمخّض عن مثل هذه السياسة علاقات غير متكافئة في التجارة الدوليّة. ويتسبّب نظام عدم المساواة هذا في تأجيج الصراعات بين البلدان الرئيسة والفرعيّة، ويَحتفظ التاريخ البشري في آخر خمسة قرون بنماذج عديدة من أمثلة هذا العداء وذاك الصراع، الذي تطوّر اليوم إلى مرحلة العولمة والتصنيع فائق الحداثة.

ومن أهمّ مسائل هذا الفصل مسألة «القطاع التوليدي» في الصناعة، القائمة على ظهور نوع من المنتجات ذات القيمة المنخفضة والأقل ربحيّة، والتي يتمّ شحنها عبر العالم لتجميعها في بلد آخر، لتُصبح منتجًا أكثر تكلفة وأكثر ربحيّة.

يُخبرنا الفصل الحالي أنّ القطاع التوليدي يستند إلى نوعين من عناصر الإنتاج:
(أ) العناصر الإنتاجيّة التقليديّة (حالة النفط في الشرق الأوسط)
(ب) العناصر الإنتاجيّة من الخامات الجديدة ذات الربحيّة العالية (حالة المعادن الأرضيّة النادرة التي أصبحت أساسيّة في إنتاج تقنيّات الحوسبة وإنتاج الطاقة المتجدّدة، التي تسعى الصين إلى السيطرة عليها).

ثمّ ينتقل الفصل إلى نماذج تاريخيّة من إنشاء الموانئ، ومراكز الإنتاج، والشحن، والتوزيع، والتصنيع. ويأخذ هنا أمثلة عديدة من هولندا، وألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، واليابان، والصين.

الجغرافيا السياسية للابتكار

يذهب المؤلّف هنا إلى مناقشة اعتماد القوّة البحريّة للدولة المهيمنة على قوّتها الاقتصاديّة ضمن القطاع التوليدي، الهادف إلى تغذية الاقتصاد المحلي كي تصبح الدولة قادرة على الاستحواذ العالمي وتحقيق أنشطة اقتصاديّة أكثر ربحيّة وتقدّمًا.

يضرب المؤلّف أمثلة عدّة من تاريخ هذا النمط من الصراع الجيوسياسي عبر وسائل عدّة، أهمّها: التجسّس الصناعي، والرسوم الضريبيّة، والحماية التجاريّة، والاستئناف ضد الحماية التجاريّة للآخرين، واستخدام الجامعات والمؤسّسات العسكريّة لتحفيز الابتكار.

ويذهب الكتاب إلى القول بأنّ أهداف النجاح الاقتصادي مرتبطة بالمخاوف المتعلّقة بالأمن القومي، وأنّ الدول التي نجحت في الاستفادة من هذه الابتكارات باتت قوّة مهيمنة في عالم اليوم. لكنّ المؤلّف يعود ليستدرك قائلًا إنّ صنع منتجات جديدة فاخرة ومربحة لا يكفي لصناعة قوّة عالميّة، بل هناك ضرورات أخرى، أهمّها التسويق، والتوزيع، والبيع في أسواق خارج حدود البلاد، حتى أصبحنا اليوم نرى القوى المؤثّرة عالميًّا موطنًا للشركات التي تصنع أحدث السلع وأكثر المنتجات جاذبيّة، والتي لديها في ذات الوقت حوافز لتقليل الحواجز التجاريّة التي تحول دون شراء الناس منتجاتها، أي أنّ التجارة والتسويق بهذا الشكل أضحيا ضرورة حتميّة ومشروعًا جغرافيًّا سياسيًّا.

يتتبّع المؤلّف الجذور التاريخيّة لهذا النوع من المشروع الجغرافي السياسي التصنيعي في حالة هولندا، حين كانت أمستردام مستودعًا نابضًا بالحركة ومركزًا رائدًا عالميًّا في التصنيع المبتكر. ولم يكن السبب الوحيد وراء القوّة الهولنديّة هو الهيمنة على التجارة فحسب، بل جاء مردّ ذلك إلى معالجة وتصنيع السلع ذات القيمة العالية أيضًا. فقد برع الهولنديّون في صناعة الأصباغ، والزجاج، وخلط التبغ، وصقل الماس، وتكرير السكر، وصناعة الصابون، ووقود الإضاءة، وعشرات من هذه المنتجات التي دخلت العالم لأوّل مرّة قبل أربعة قرون.

وقد عبّر هذا السَّبق عن نفسه في حدث عالمي من الشبكات الاقتصاديّة مثلته شركة الهند الشرقيّة الهولنديّة التي تأسّست في يناير 1602. وكانت مؤسّسة تجاريّة سياسيّة عسكريّة في آن.

وفي تطوّر آخر يتوافق مع الأوضاع الجيوسياسيّة الحاليّة، أثار نموّ الصناعة الهولنديّة الغيرة والقلق في بلدان أخرى، حتى إنّه نشأت سياسات الحماية التجاريّة، ثم تمكّنت بلدان أخرى في نهاية المطاف من اللحاق بالهولنديين، وما ترتّب عليه من فقدان شركة الهند الشرقيّة الهولنديّة مكانتها كقوّة اقتصاديّة وعسكريّة مهيمنة في العالم، لا سيّما مع صعود بريطانيا، التي أرست بنية أساسيّة جديدة للتجارة العالميّة.

مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، واجهت المدن البريطانيّة منافسة اقتصاديّة من ألمانيا، واليابان، والولايات المتّحدة، قبل أن تتجلّى قوّة الصين التي تعمل بجدٍّ ونشاط على ثنائيّة بناء الموانئ والسيطرة عليها، في مياه الداخل وفي المياه البعيدة، لضمان سريان التجارة التي تُحرّك الاقتصاد المحلي.

لقد أوضحت الصين نواياها المستقبليّة بوضوح من خلال برنامجها «الصين 2025» الهادف إلى إحداث تغيير راديكالي في اقتصاد الصين، من خلال تشجيع الصناعات الجديدة بالغة الربحيّة، وتعزيز تكنولوجيا المعلومات، والآلات والروبوتات ذات التحكّم الرقمي المتطوّر، ودعم معدّات الفضاء والطيران، وتطوير أجيال جديدة من معدّات الهندسة البحريّة وتصنيع السفن عالية التقنية، فضلًا عن معدّات السكك الحديديّة المتقدّمة، والمركبات الموفّرة للطاقة، والمركبات التي تُدار بالطاقة المتجدّدة، ودفع عجلة الإنتاج في مجالات المستحضرات الصيدلانيّة الحيويّة، والأجهزة الطبيّة عالية الأداء. وتشير هذه الطموحات الصينيّة إلى دورٍ مُوسّع للحكومة في الاقتصاد، وهو ما سيؤثّر بالطبع على الشركات الأمريكيّة.

الرؤى المفسرة لمستقبل القوى البحرية

يستهلّ المؤلّف الفصل السابع من كتابه بتمهيد يُوضّح فيه كيف أنّ عالمنا الحالي مُنظَّم حول أفكار متنافسة بشأن حداثة المؤسّسات العالميّة. وفي طليعة تجلّيات هذا النظام، استغلال الإمبراطوريّات الغربيّة لمؤسّسات دوليّة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لإدارة العلاقات مع الدول التابعة.

وتواجه هذه المؤسّسات الغربيّة منافسة من المؤسّسات التي تقودها الصين، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتيّة. ويتردّد صدى المنافسة بين هذه المشاركات المؤسّسيّة مع الدول التابعة في المعارك الإعلاميّة حول ترويج النموذج الأمريكي والصيني، وتنافس كلٍّ منهما على تقديم نفسه باعتباره الأفضل لتحقيق مصالح تلك البلدان.

وتسعى كلّ دولة لتسويق نموذجها في العلاقات الجيوسياسيّة الخاصة، التي تحافظ من خلالها على قوّتها العسكريّة في البحار، وتزعم كلّ دولة عظمى في هذه المؤسّسات المتنافسة أنّ العلاقات التجاريّة التي تحميها هي لصالح الجميع، من أجل بناء مشروع حضاري للعالم.

ويناقش المؤلّف في هذا الفصل مسألةً جدّ مهمّة، وهي أنّ فرض القوّة على العالم من خلال التجارة والعنف يحتاج إلى تبرير. ذلك لأنّ قتل السكّان الأصليّين وتغيير اقتصاداتهم لصالح الغزاة الأكثر ثراءً على الجانب الآخر من العالم يتطلّب مهمّة «حضاريّة» عمادها «الحرّيّة».

ويُؤكّد المؤلّف أنّ الهولنديّين، والبريطانيّين، والأمريكيّين قد نشبوا مخالبهم الاقتصاديّة، واستخدموا العنف في هذه العمليّة، من أجل تحقيق مكاسب مادّيّة، رافعين راية «الحرّيّة».

في الجزء الأخير من الفصل، ينتقل المؤلّف إلى حالة الإمبراطوريّة البريطانيّة كنموذج تاريخي، وكيف كان تلاميذ المدارس البريطانيّة يدرسون الأطالس التي تُظهر جزءًا كبيرًا من خريطة العالم ملوّنًا باللون الأحمر الإمبراطوري. مع إغفال حقيقة أنّ هذه المساحات الشاسعة من الأراضي كانت أماكن مأهولة بالسكّان، يهدّدها جنود وضبّاط استعماريّون.

ويُشير المؤلّف إلى مفارقة خادعة في هذا النوع من التعليم المدرسي في الإمبراطوريّة البريطانيّة، حين كانت جدران الكنائس البريطانيّة مزيّنة بلوحات تذكاريّة تخليدًا لذكرى العديد من الضبّاط الاستعماريّين الذين فقدوا أرواحهم في المناطق التابعة للإمبراطوريّة البريطانيّة، مع إغفال الإشارة بأيّ حال إلى أرواح من لقوا حتفهم من السكّان الأصليّين على يد هؤلاء الاستعماريّين، وعددهم أضعاف مضاعفة.

ويختم المؤلّف حديثه هنا بقوله: «لقد كانت المجاعات أمرًا شائعًا في الإمبراطوريّة، وخلال تلك المجاعات – التي ضربت شعوب أيرلندا والهند على سبيل المثال – كان شحن المواد الغذائيّة إلى المدن البريطانيّة الكبرى يتدفّق دون توقّف».

وينتهي الفصل بدراسة حالة الولايات المتحدة التي ظهرت كقوّة عالميّة في البرّ والبحر بعد اتفاق «بريتون وودز» الماليّة لعام 1944، الذي أسّس لنوع جديد من القوّة المهيمنة. فبدلًا من السيطرة الإمبرياليّة، اعتمد مشروع التنمية الأمريكي على حكومات مستقلّة ظاهريًّا تتّخذ قرارات وطنيّة تقع ضمن السياسات التي حدّدتها مؤسّسات بريتون وودز. ووقع صراع كبير بين القويّ والضعيف في عالم الهيمنة الأمريكيّة (البحريّة)، التي نافستها القوّة السوفيتيّة (البرّيّة).

أمّا أحدث موجات القوى الاقتصاديّة الجديدة فتمثّلها الصين، بشعارها حول «التعاون بين بلدان الجنوب»، والتي تُروّج فيه إلى أنّها تعمل لصالح العالم بأسره، وأنّ هدفها الوحيد «المنفعة المتبادلة». وخلافًا لشعار الولايات المتحدة الشهير «الحلم الأميركي»، تُروّج الصين لخطاب يُشير إلى أنّ لديها «تاريخًا مماثلًا لدول الجنوب»، وأنّها تفهم موقف هذا العالم في الاقتصاد العالمي، وتتعاطف مع الصعوبات التاريخيّة التي واجهت دول الجنوب في التعامل مع دول الهيمنة.

سحاب يتجمّع لعاصفةٍ في الأفق!

يؤكد المؤلف في خاتمة كتابه أنه تحرّى التوازن، ولم يكن نصيرًا لطرف على آخر، أو مؤيدًا لنظرية على حساب أخرى. ويتخذ المؤلف من سيناريوهات المستقبل للصراع على شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي دليلًا على أن الصراع على المياه القريبة من الصين – البعيدة من الولايات المتحدة – ما زال يرسم خريطة الصراع بين قوى البحر في المستقبل، كما فعل في الماضي.

# جغرافيا # قراءات كتب # كتب

من أنا؟ عن الحرب المستعرة التي نحرق بها دواخلنا
إعادة التفكير في الجيوبوليتيكا
المقعد البرتقالي.. حكايات ضحايا لم يعيشوا دور الضحية

معرفة